الحمدلله مُعز من أطاعه واتقاه ، ومُذل من خالفه وعصاه ، ونحمده علي حلو نعمته ومر بلواه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، لا نعبد إلا إياه ، ونشهد أن محمد عبده ورسوله - صلي الله عليه وسلم - .
لا شك أن الناس متفاوتون في عبادتهم لله تعالي ، وهذا عائد إلي أن الأيمان غير ثابت الدرجات وتتحدد درجة الإيمان حسب تفاوت درجة ألوهية الله في قلوب العباد زيادة ونقصان ، مقسماً العباد إلي ثلاث درجات ، أدناهم : الظالم لنفسه : وهو الذي يظلم نفسه بإرتكاب المعاصي دون الكفر ، وأوسطهم : المقتصد : وهو الذي يقيم الفرائض ويجتنب الكبائر حظه من النوافل قليل ، أعلاهم : السابق بالخيرات : وهو الذي يقيم الفرائض الأساسية وله حظ كبير من النوافل يتقرب بها إلي الله ، هذا لا يعني أن أحدهم معصوم من الذنوب ولكن بني أدم متفاوتون في ارتكاب الذنوب ، وتنقسم حالة الظالم لنفسه لثلاثة حالات ، الأولي : من يرتكب الذنوب مُستتراً ، الثانية : أن يجاهر بها ، الثالثة : أن يزيد علي المجاهرة بها بالدعوة إليها .. وتلك أكثرهم شراً وربما فجوراً .
" المعصية "
لغةً : العصيان هو خلاف الطاعة ، ويقول صاحب {لسان العرب} : العصيان خلاف الطاعة ، عصي العبد ربه إذا خالف أمره ، وعصي فلان أميره يعصيه عصياً وعصياناً ومعصيةً إذا لم يُطعه فهو عاصي وعَصِيّ ،وقال {الجرجاني} : العصيان هو ترك الإنقياد .
أما شرعاً : المعاصي : ترك المأمورات وفعل المحظورات ، أو ترك ما أمر به الله وأوجبه في كتابه وفعل ما نهي عنه من أفعال وأقوال ظاهرة وباطنة.
جاء معني العصيان بألفاظ كثيرة في القرآن :
الذنب ، الخطيئة ، السيئة ، الحوب ، الإثم ، الفسوق والعصيان ، الفساد ، العُتُوُ .
ومن المعلوم أن للمعصية متعلقات كثيرة ، بحسب الزمان والمكان كما يلي :
فأما الزمان : فإن المعصية في بعض الأوقات أعظم منها في وقت آخر .. كالأشهر الحرام ، ورمضان ، وعشر ذي الحجة ... إلخ
أما المكان : لا شك أن بعض الأماكن أفضل من بعض وأيمن ، فأفضل بقاع الأرض عند الله مكة المكرمة ، ثم المدينة المنورة ، ثم بيت المقدس .. كما أن الحسنات فيها مضاعفة ، والسيئة فيها عند الله عظيمة ليست كغيرها.
" الفِسق "
لغةً : العصيان والترك لأمر الله ، والخروج عن طريق الحق. فسق يفسق ، ويفسق فسقاً ، وفسوقاً ...
والعرب تقول : إذا خرجت الرطبة من قشرتها : قد فسقت الرطبة من قِشرها ، وكأن الفأرة إنما سميت فويسقة لخروجها من جحرها علي الناس.
والفِسقُ : الخروج عن الأمر ، وقيل الفسوق : الخروج عن الدين ، وكذلك الميل إلي المعصية كما فسق إبليس عن أمر ربه ، وفسق عن أمر ربه ، أي جار ومال عن طاعته .
شرعاً : هو الخروج عن طاعة الله تعالي ، سواء كان الخروج كفراً أو معصية ، يقول بن تيمية : الفسق هو ارتكاب الكبائر قصداً ، أو الإصرار علي الصغائر بغير تأويل ، وعلي هذا فإن المتأول المعذور لا يُفَسّق ولا يُؤَثّم .
وبنحوه قال السخاوي : هو ارتكاب الكبيرة ، أو الإصرار علي الصغيرة.
وقال الجرجاني : من شهد ولم يعمل ، واعتقد فهو فاسق.
" ما ذهب الجرجاني أعلاه ، جنوح عن جادة طريقة السلف في تعريف الإيمان ، فهو قد عرف الفسوق علي طريقة تعريف المرجئة للإيمان !! ، حيث أخرجوا مُسمي العمل عن تعريف الإيمان ، لذا كان الفاسق المِلي عندهم مؤمناً كامل الإيمان إذا أقر وشهد ، ولو لم يعمل خيراً قط !!
أما ما عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين أن الإيمان : { قول وعمل ، يزيد وينقص } ، فكان الإيمان عندهم حقيقة مُركبة من القول والعمل.
جاء معني الفسق بعدة ألفاظ في القرآن :
بمعني الكفر ، الإثم ، الكذب ، السب ، بمعني مخالفة أمر الرسول ، بمعني المعصية من غير شرك.
" الكبائر "
لغةً : قال في اللسان : الكِبرُ ، الإثم الكبير ، وما وعد الله عليه النار ، والكبيرة كالكبر : التأنيث علي المبالغة .
وذكرت الكبائر في القرآن ، وفي الحديث الشريف ذُكرت في غير موضع. واحدتها كبيرة وهي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعاً لعظيم أمرها : كالقتل ، والزنا ، والفرار من الزحف ، وغير ذلك .
وبناء علي ما سبق فإن للكبائر عدة أشكال وتفاسير ، لذا سأذكر أشهرها وأقواها تجنباً للإطالة ، هذا إن علمنا أن أهل العلم قد اختلفوا في تعريف الكبيرة علي ضابطين لا ثالث لهما وتحت كل ضابط أقوال ، أوضحهم كما يلي :
الضابط الأول : من ذكرها بِحَدّ .
الضابط الثاني : من ذكرها بِعَدّ .
أما أهل الضابط الأول ، فلهم أقوال كثيرة :
قال الغزالي عن الكبيرة : " كل معصية يقدم المرء عليها من غير خوف ، ووجدان ندم تهاوناً ، واستجراء عليها : فهي كبيرة. وما يُحمل علي فلتات النفس ، ولا ينفك عن ندم يمتزج بها ، ويُنغص التلذذ بها فليس بكبيرة ، واعترض العلائِيُّ وقال : ...وليس كذلك اتفاقاً ، وإن كان ضابطاً لما هو عدا المنصوص عليه فهو قريب " .
والقيد الذي ذكره العلائِيُّ جيد مع التحفظ ، لأن الإنسان يقع في المعصية وهو يعلم أنها كبيرة ، وهو خائف ، ويجد ندماً علي فعله كالزنا مثلاً ، ولكن هذا لا يخرجها عن كونها كبيرة.
قال القُرطبيُّ عن الكبيرة : " كل ذنب عظّم الشرع التوعد عليه بالعِقاب ، وشدده ، أو عظم ضرره في الوجود .. فهو كبيرة ، وما عداه فهو صغيرة " .
رُويّ عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : " الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالي بنارٍ ، أو غضبٍ ، أو لعنةٍ ، أو عذابٍ " وبنحوه مَروي عن الحسن البصري.
فأما أهل الضابط الثاني ، فلهم أقوال كثيرة :
روي عبدالرازق ، والطبراني ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال عن الكبائر : " هن إلي السبعين أقرب منها إلي السبع " ، إشارة إلي حديث " اجتنبوا السبع الموبقات " ...
وعند النظر فيما ذُكر من كون الكبائر مُنظبطة بِعَدّ ، ليس بسديد ، ففيه من الفوادح والإعتراضات ، ما يقطع برده!!
فهذا بن تيمية - رضي الله عنه - يرد علي هذه الأقوال ويقول : " ومن قال : هي سبعة عشر ، فهو قول بلا دليل ، ومن قال : إنها مُبهمة ، أو غير معلوم ، فإنما أخبر عن نفسه : أنه لا يعلمها " .
" الصغائر "
عرفنا الكبائر وقدمنا شرحها ، لسهولة تعريف الصغائر ، وهي كل عمل لم يقترن نهيه بلعن أو وعيد ، أو غضب ، فتلك هي الذنوب الصغيرة التي تجتمع فتؤدي للكبائر ولذلك نهينا أيضاً عن فعلها ، ووجب علينا تجنبها .
وهذه بعض الأمثلة عن الصغائر :
- النظر إلي النساء الأجنبيات { أن زنا العينين ، والأذنين ، واللسان ، واليد ، والرجل التي نبهنا لها الرسول - صلي الله عليه وسلم - في حديثه ، هي من اللَّمَمِ ، وهي صغائر الذنوب }
- الخروج من المسجد بعد الآذان.
- الإختباء يوم الجمعة ، والإمام يخطب.
- البُصاق في المسجد .
- الإلتفات في الصلاة.
- وضع اليد علي الخصر أثناء الصلاة.
- رد الريحان.
- أكل الثوم والبصل ، والذهاب للصلاة في المسجد .
- قول المستأذن : أنا ، إذا قيل من هذا ؟ .
- الخصومة في المسجد .
اعلم يا أخي هذا القول وافهمه جيدا " لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الإستغفار "
واحذروا من محقرات الذنوب فإنها إن تراكمت أصبحت حِملاً يثقل كاهل صاحبه ويصعب حياته.
يتبع بإذن الله ...
تعليقات
إرسال تعليق